فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أنه لما ذكر تعالى أنه واحد، وأنه منفرد بالإلهية، لم يكتف بالإخبار حتى أورد دلائل الاعتبار. ثم مع كونها دلائل، بل هي نعم من الله على عباده، فكانت أوضح لمن يتأمل وأبهر لمن يعقل، إذ التنبيه على ما فيه النفع باعث على الفكر. لكن لا تنفع هذه الدلائل إلا عند من كان متمكنًا من النظر والاستدلال بالعقل الموهوب من عند الملك الوهاب، وهذه الأشياء التي ذكرها الله ثمانية، وإن جعلنا: وبث فيها، على حذف موصول، كما قدرناه في أحد التخريجين، كانت تسعة، وهي باعتبار تصير إلى أربعة: خلق، واختلاف، وإنزال ماء، وتصريف.
فبدأ أولًا بالخلق، لأنه الآية العظمى والدلالة الكبرى على الإلهية، إذ ذلك إبراز واختراع لموجود من العدم الصرف. {أفمن يخلق كمن لا يخلق} {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون} ودل الخلق على جميع الصفات الذاتية، من واجبية الوجود والوحدة والحياة والعلم والقدرة والإرادة، وقدّم السماوات على الأرض لعظم خلقها، أو لسبقه على خلق الأرض عند من يرى ذلك.
ثم أعقب ذكر خلق السماوات والأرض باختلاف الليل والنهار، وهو أمر ناشئ عن بعض الجواهر العلوية النيرة التي تضمنتها السماوات. ثم أعقب ذلك بذكر الفلك، وهو معطوف على الليل والنهار، كأنه قال: واختلاف الفلك، أي ذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية، وهو أمر ناشئ عن بعض الأجرام السفلية الجامدة التي تضمنتها الأرض.
ثم أعقب ذلك بأمور اشترك فيها العالم العلوي والعالم السفلي، وهو إنزال الماء من السماء، ونشر ما كان دفينًا في الأرض بالأحياء. وجاء هذا المشترك مقدمًا فيه السبب على المسبب، فلذلك أعقب بالفاء التي تدل على السبب عند بعضهم.
ثم ختم ذلك بما لا يتم ما تقدمه من ذكر جريان الفلك وإنزال الماء وإحياء الموات إلا به، وهو تصريف الرياح والسحاب. وقدم الرياح على السحاب، لتقدم ذكر الفلك، وتأخر السحاب لتأخر إنزال الماء في الذكر على جريان الفلك.
فانظر إلى هذا الترتيب الغريب في الذكر، حيث بدأ أولًا باختراع السماوات والأرض، ثم ثنى بذكر ما نشأ عن العالم العلوي، ثم أتى ثالثًا بذكر ما نشأ عن العالم السفلي، ثم أتى بالمشترك. ثم ختم ذلك بما لا تتم النعمة للإنسان إلا به، وهو التصريف المشروح.
وهذه الآيات ذكرها تعالى على قسمين: قسم مدرك بالبصائر، وقسم مدرك بالأبصار. فخلق السماوات والأرض مدرك بالعقول، وما بعد ذلك مشاهد للأبصار. والمشاهد بالأبصار انتسابه إلى واجب الوجود، مستدل عليه بالعقول، فلذلك قال تعالى: {لآيات لقوم يعقلون}، ولم يقل: لآيات لقوم يبصرون، تغليبًا لحكم العقل، إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن جزي:

واختلاف الليل والنهار أي اختلاف وصفهما من الضياء والظلام والطول والقصر، وقيل إن أحدهما يخلف الآخر بما ينفع الناس من التجارة وغيرها وتصريف الرياح إرسالها من جهات مختلفة وهي الجهات الأربع وما بينهما وبصفات مختلفة فمنها ملقحة بالشجر وعقيم وصر وللنصر وللهلاك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

موقع هاته الآية عقب سابقتها موقع الحجة من الدعوى، ذلك أن الله تعالى أعلن أن الإله إله واحد لا إله غيره وهي قضية من شأنها أن تُتلقى بالإنكار من كثير من الناس فناسب إقامة الحجة لمن لا يقتنع فجاء بهذه الدلائل الواضحة التي لا يسع الناظر إلاّ التسليم إليها.
فإن هنا لمجرد الاهتمام بالخبر لِلَفْت الأنظار إليه، ويحتمل أنهم نُزلوا منزلة من ينكر أن يكون في ذلك آيات {لقوم يعقلون} لأنهم لم يجروا على ما تدل عليه تلك الآيات. اهـ.
والمقصود من هاته الآية إثبات دلائل وجود الله تعالى ووحدانيته ولذلك ذكرت إثر ذكر الوحدانية لأنها إذا أثبتت بها الوحدانية ثبت الوجود بالضرورة. فالآية صالحة للرد على كفار قريش دُهريهم ومشركهم والمشركون هم المقصود ابتداء، وقد قرر الله في هاته الآية دلائل كلها واضحة من أصناف المخلوقات وهي مع وضوحها تشتمل على أسرار يتفاوت الناس في دركها حتى يتناول كل صنف من العقلاء مقدار الأدلة منها على قدر قرائحهم وعلومهم. اهـ.
سؤال: لم قدم الليل على النهار؟
والجواب: قدم الليل على النهار لسبقه في الخلق، قال تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} وقال قوم: إن النور سابق على الظلمة، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في ليلة اليوم. فعلى القول الأول: تكون ليلة اليوم هي التي قبله، وهو قول الجمهور؛ وعلى القول الثاني: ليلة اليوم هي الليلة التي تليه، وكذلك ينبني على اختلافهم في النهار، اختلافهم في مسألة: لو حلف لا يكلم زيدًا نهارًا. اهـ.

.قال الخازن:

قيل: لما نزلت هذ الآية. قال المشركون: إن محمدًا يقول: «إلهكم إله واحد فليأتنا بآية إن كان صادقًا» فأنزل الله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض} وعلمه كيفية الاستدلال على وحدانية الصانع، وردهم إلى التفكر في آياته والنظر في عجائب مصنوعاته وإتقان أفعاله ففي ذلك دليل على وحدانيته إذ لو كان في الوجود صانعان لهذه الأفعال، لاستحال اتفاقهما على أمر واحد ولامتنع في أفعالهما التساوي في صفة الكمال فثبت بذاك أن خالق هذا العالم والمدبر له واحد قادر مختار، فبين سبحانه وتعالى من عجائب مخلوقاته ثمانية أنواع أولها: إن في خلق السماوات والأرض وإنما جمع السماوات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى ووحد الأرض جنس واحد وهو التراب، والآية في السماء هي سمكها وارتفاعها بغير عمد، ولا علاقة وما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم، والآية في الأرض مدها وبسطها على الماء، وما يرى فيها من الجبال والبحار والمعادن والجواهر والأنهار والأشجار والثمار والنبات. النوع الثاني قوله تعالى: {واختلاف الليل والنهار} أي تعاقبهما في المجيء والذهاب وقيل اختلافهما في الطول والقصر والزيادة والنقصان والنور والظلمة.
وإنما قدم الليل على النهار لأن الظلمة أقدم.
والآية في الليل والنهار أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة يكون في النهار وطلب النوم والراحة يكون في الليل فاختلاف الليل والنهار إنما هو لتحصيل مصالح العباد.
والنوع الثالث قوله تعالى: {والفلك التي تجري في البحر} أي السفن واحدة وجمعه سواء، وسمي البحر بحرًا لاتساعه وانبساطه، والآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقرة بالأثقال والرجال فلا ترسب وجريانها بالريح مقبلة ومدبرة، وتسخير البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان الماء، وهيجان البحر فلا ينجي منه إلاّ الله تعالى.
النوع الرابع قوله تعالى: {بما ينفع الناس} يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات لطلب الأرباح، والآية في ذلك أن الله تعالى لو لم يقو قلب من يركب هذه السفن لما تم الغرض في تجاراتهم، ومنافعهم وأيضًا فإن الله تعالى خص كل قطر من أقطار العالم بشيء معين، وأحوج الكل إلى الكل فصار ذلك سببًا يدعوهم إلى اقتحام الأخطار في الأسفار من ركوب السفن وخوض البحر وغير ذلك فالحامل ينتفع، لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه.
النوع الخامس قوله تعالى: {وما أنزل الله من السماء من ماء} يعني المطر قيل أراد بالسماء السحاب.
سمي سماء لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء خلق الله الماء في السحاب، ومنه ينزل إلى الأرض وقيل: أراد السماء بعينها خلق الله الماء في السماء ومنه ينزل إلى السحاب ثم منه إلى الأرض {فأحيا به} أي بالماء {الأرض بعد موتها} أي يبسها وجدبها.
سماه موتًا مجازًا لأنها إذا لم تنبت شيئًا، ولم يصبها المطر فهي كالميتة، والآية في إنزال المطر وإحياء الأرض به أن الله تعالى جعله سببًا لإحياء الجميع من حيوان ونبات ونزوله عند وقت الحاجة إليه بمقدار المنفعة، وعند الاستسقاء والدعاء وإنزاله بمكان دون مكان.
النوع السادس قوله تعالى: {وبث} أي فرق {فيها} أي في الأرض {من كل دابة} قال ابن عباس: يريد كل ما دب على وجه الأرض من جميع الخلق من الناس وغيرهم، والآية في ذلك أن جنس الإنسان يرجع إلى أصل واحد وهو آدم ثم ما فيهم من الاختلاف في الصور والأشكال والألوان والألسنة والطبائع والأخلاق والأوصاف إلى غير ذلك ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان.
النوع السابع قوله تعالى: {وتصريف الرياح} يعني في مهابِّها قبولًا ودبورًا وشمالًا وجنوبًا ونكباء وهي الريح التي تأتي من غير مهب صحيح، فكل ريح تختلف مهابها تسمى: نكباء.
وقيل: تصريفها في أحوال مهابها لينة وعاصفة وحارة وباردة.
وسميت ريحًا لأنها تريح.
قال ابن عباس: أعظم جنود الله الريح وقيل ما هبت ريح إلاّ لشفاء سقيم أو ضده.
وقيل: البشارة في ثلاث رياح الصبا والشمال والجنوب والدبور: هي الريح العقيم التي أهلكت بها عاد فلا بشارة فيها، والآية في الريح أنها جسم لطيف لا يمسك ولا يرى وهي مع ذلك في غاية القوة تقلع الشجر والصخر وتخرب البنيان العظيم وهي مع ذلك حياة الوجود فلو أمسكت طرفة عين لمات كل ذي روح وأنتن ما على وجه الأرض.
النوع الثامن قوله تعالى: {والسحاب المسخر بين السماء والأرض} أي الغيم المذلل.
سمي سحابًا لسرعة سيره كأنه يسحب. والآية في ذلك أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأدوية العظيمة يبقى معلقًا بين السماء والأرض، ففي هذه الأنواع الثمانية المذكورة في هذه الآية دلالة عظيمة على وجود الصانع القادر المختار، وأنه الواحد في ملكه فلا شريك له ولا نظير وهو المراد من قوله: {وإلهكم إله واحد لا إله إلاّ هو} وقوله: {لآيات} أي فيما ذكر من دلائل مصنوعات الدالة على وحدانيته.
قيل إنما جمع آيات لأن في كل واحد مما ذكر من هذه الآنواع آيات كثيرة تدل على أن لها خالقًا مدبرًا مختارًا {لقوم يعقلون} أي ينظرون بصفاء عقولهم ويتفكرون بقلوبهم، فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقًا ومدبرًا مختارًا وصانعًا قادرًا على ما يريد. اهـ.

.قال ابن عرفة:

وإنما جمعت السماوات وأفردت الأرضون مع أنها سبع لأنّ عدد السماوات يدرك بالرصد، وطول الأعمار، والكسوفات، وأطوال البلاد وأعراضها، وجري الكواكب، والأرضون لا طريق لنا إلى إدراكها بوجه إلا من السمع، لأن المشاهد لنا منها إنما هي أرض واحدة. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الآية.
لم يبين هنا وجه كونهما آية، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السماء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [ق: 6- 8]، وقوله: {الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} [الملك: 3- 5]، وقوله في الأرض: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولًا فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور} [الملك: 15].
قوله تعالى: {واختلاف الليل والنهار}.
لم يبين هنا وجه كون اختلافهما آية، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71- 73]، إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.
قوله تعالى: {والسحاب المسخر بَيْنَ السماء والأرض}.
لم يبين هنا كيفية تسخيره، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الماء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [الأعراف: 57]، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: 43]. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيتين:

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}.
التفسير:
الواحد قد يكون اسمًا وذلك في العدد واحد، اثنان، ثلاثة. وقد يكون صفة كقولك شخص واحد ومعناه أنه لا ينقسم من جهة ما قيل: له إنه واحد. فالإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم من حيث هو إنسان، لأن الإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم إلى إنسانين، بل قد ينقسم إلى الأبعاض والأجزاء وذلك من جهة أخرى. ثم زعم قوم أن الواحدية صفة زائدة على الذات لأن الجوهر قد يشارك العرض في كونه واحدًا لا يشاركه في كونه جوهرًا فقط، ولأنه يصح تعقل الجوهر مع الذهول عن كونه واحدًا، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم، ولأن قولنا الجوهر واحد ليس يجري مجرى قولنا الجوهر جوهر ولأن مقابل الجوهر العرض، ومقابل الواحد هو الكثير. ثم المفهوم من كونه واحدًا أمر ثبوتي لأنه لو كان سلبيًا لكان سلبًا للكثرة. فإن كانت الكثرة سلبية وسلب السلب ثبوت فالوحدة ثبوتية وهو المطلوب، وإن كانت الكثرة ثبوتية ولا معنى للكثرة إلا مجموع الوحدات فإن كانت الوحدة سلبية حصل من الأمور المعدومة أمر موجود وهو محال، فثبت أن الوحدة صفة زائدة ثبوتية. ثم إنه لا يمكن أن يقال: إنه لا تحقق لها إلا في الذهن لأنا نعلم بالضرورة أن الشيء المحكوم عليه بأنه واحد قد كان واحدًا في نفسه قبل أن يوجد في ذهننا واعتبارنا فثبت أن كون الشيء واحدًا صفة ثبوتية زائدة على ذاته قائمة بتلك الذات. والجواب أن كون الشيء واحدًا في ذاته معناه كونه بحيث يصح أن يدرك الذهن منه معنى الوحدة، وهذه الحيثية لا تتوقف على حصول الذهن في الخارج. ثم إن الوحدة لو كانت صفة زائدة على الذات كانت الوحدات متساوية في ماهية الوحدة ومتباينة بتعيناتها، فيكون للوحدة وحدة أخرى وهلم جرا وذلك محال، ثم إن شيئًا من الموجودات لا ينفك عن الوحدة حتى العدد، فإن العشرة الواحدة يعرض لها الوحدة من حيث هي عشرة واحدة.
فإن قلت: عشر ثانٍ فالعشرتان مرة واحدة قد عرضت لها الوحدة من هذه الجهة، فلا شيء من الموجودات ينفك عن الوحدة. ولكن الوحدة تغاير الوجود لأن الموجود ينقسم إلى الواحد، والكثير والمنقسم إلى شيئين: مغاير لما به الانقسام. والواحد الحق سبحانه وتعالى واحد باعتبارين: أحدهما أن ذاته ليست مركبة من أمور كثيرة بل ولا من أمرين أيضًا وإليه الإشارة بقوله: {إلهكم إله واحد} والخطاب للممكنات بأسرهم. والتذكير لتغليب ذوي العقول الذكور، وثانيهما أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه واجب وفي كونه مبدأ لجميع الممكنات وهو المراد بقوله: {لا إله إلا هو} ويمكن أن يقال: القرينتان تدلان على نفي الشريك إلا أن الأولى منهما تدل على إثبات وحدته في الإلهية بالمطابقة. ويلزم منه نفي الشريك كقولك هو سيد واحد تريد الوحدة في السيادة، فيلزم نفي أن يكون غيره سيدًا. والقرينة الثانية تدل على نفي الشريك بالمطابقة. ثم على إثبات المعبودية بالحق فمعناه لا إله في الوجود إلا هو. وفيه نكتة شريفة وهي أن إثبات الحق وقع في كلتا القرينتين بالمطابقة ليعلم أنه المقصد الأسنى والغاية القصوى. وتحقيقه أن العارف له رجوع وعروج، وذلك أنه قد يفنى في عالم اللاهوت ويبقى ببقاء الحي الذي لا يموت، ويطالع عالم الشهود فيلزمه حينئذ نفي ما سوى الحق. وإذا رجع إلى عالم الناسوت ضرورة وجب عليه نفي كل من سواه حتى يعرج إلى المقصود. فهذا سر عكس الترتيب في القرينتين، ولأن الأولى مرتبة الصديقين السابقين فلا جرم وقع التكليف بالترتيب الأخير «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله».
ثم البرهان العقلي على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه لا يجمعه أجزاء مقدارية كما للأجسام، ولا يحصره أجزاء معنوية كما في البسائط النوعية، ولا أجزاء اعتبارية كما في البسائط الجنسية، هو أن كل مركب فإنه يفتقر في تحققه أجزائه، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجب الوجود لذاته. وأيضًا فكل ممكن فإن وجوده زائد على ماهيته في العقل والاعتبار فإنه يمكن تصور الممكن من حيث إنه ممكن مع الشك في وجوده الخارجي. ولكن لا يمكن تعقل الواجب من حيث إنه واجب مع الشك في وجوده، ولا نعني بكون الوجود زائدًا على الماهية وغير زائد إلا هذا. وأما أنه تعالى وحده لا شريك له فلأن وجوب الوجود يقتضي أن لا يكون الواجب لذاته مفتقرًا في شيء إلى شيء أصلًا، ولا يكون كذلك إلا إذا كان في غاية الكمال ونهاية الجلال والجمال، ولا ريب أن من كمالات الجميل كونه عديم النظير. ومن تحقق معنى وجوب الوجود بنور الباطن وصفاء الضمير لم يشك في وجوده تعالى ولا في أن واجب الوجود من جميع جهاته، وواجب الوجود في جميع صفاته، وواحد بجميع اعتباراته حتى عن حمل الوحدة عليه وعن تصور ذاته.
وههنا حالة عجيبة، فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة، فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة. فاعرف هذه الأسرار لتتخلص عن ظلمات شبهات الأشرار وتفوز بمقامات الأبرار وتستغرق في بحار عالم الأنوار بعون الملك الجبار وشروق أنوار الواحد القهار. ولك أن تقول: إنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له. أما أنه واحد في ذاته فلأنه لو شاركه غيره في حقيقته لزم تركبه مما به الاشتراك وما به الامتياز، وكل مركب مفتقر، وكل مفتقر ممكن. وأما أنه واحد في صفاته فلأن صفات غيره من غيره وصفاته من نفسه، ولأن صفات غيره زمانية دون صفاته ولأن صفات غيره متناهية وصفاته غير متناهية كعلمه مثلًا، فإن له معلومات غير متناهية بل له في كل معلوم علوم غير متناهية بحسب أحياز ذلك المعلوم وأوقاته وسائر أحواله، ولأن موصوفية ذاته بالصفات ليست بمعنى كونها حالة في ذاته وكون ذات محلًا لها، ولا بمعنى أن ذاته تستكمل بها لأن ذاته كالمبدأ لتلك الصفات ولن يستكمل المبدأ بما عن المبدأ بل ذاته مستكملة بذاته. ومن لوازم ذلك الاستكمال الذاتي تحقق صفات الكمال، وقد يفضي التقرير هاهنا إلى حيث تقصر العبارة عن الوفاء به، وتلك أنه لا خبر عند العقول من صفاته كما أنه لا خبر عندها من ذاته، فإنا لا نعرف من علمه إلا أنه الآمر الذي لأجله ظهر الأحكام والإتقان في المخلوقات، كما أنا لا نعلم من ذاته إلا أنه مبدأ جميع الممكنات. من طبع على قلبه مني بالخذلان، ومن كشف له الغطاء صار حيران فلا إحاطة للقطرة بكرة الماء، ولا ظهور لضوء السهى عند حلول الشمس.
كبد السماء أشتاقه فإذا بدا ** أطرقت من إجلاله

لا خيفة بل هيبة ** وصيانة لجماله

فالموت في إدباره ** والعيش في إقباله

وأصدّ عنه إذا بدا ** وأروم طيف خياله

وأما أنه واحد في أفعاله فلأن ما سواه ممكن الوجود لذاته، وبقدر البون بين الواجب للذات والممكن للذات يوجد التفاوت بين فعليهما إن فرض للممكن فعل من نفسه {الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون} [الروم: 40] ثم إنه تعالى خص الموضع بذكر الرحمن الرحيم، لأن الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو، فقعبهما بذكر الصفتين ترويحًا للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية وإشعارًا بأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان {إن في خلق السموات والأرض} الآية.
ذكر علماء المعاني في إيجاز هذه الآية أن في ترجيح وقوع أيّ ممكن كان على لا وقوعه لآيات للعقلاء. إلا أن الكلام لما كان مع الإنس أو الجن فحسب بل مع الثقلين، ولا مع قرن دون قرن بل مع القرون كلهم إلى انقراض الدنيا وفيهم من مرتكبي التقصير في باب النظر والعلم بالصانع من لا يحصي من طوائف الغواة، لم يكن مقام أدعى لترك الإيجاز إلى الإطناب من هذا. عن عطاء قال: نزل بالمدينة على النبي صلى الله عليه وسلم {وإلهكم إله واحد} فقالت كفار قريش بمكة- ولهم حينئذ حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا: كيف يسع الناس إله واحد؟ فنزلت {إن في خلق السموات والأرض} إلى آخرها وعن سعيد بن مسروق: لما نزلت {وإلهكم إله واحد} تعجب المشركون وقالوا: إله واحد؟ إن كان صادقًا فليأتنا بآية فنزلت. وزعم بعض الناس أن الخلق هو المخلوق وهو الذي يدل على الصانع.
والتحقيق أنه غيره لأن الخلق التقدير، وتقدير المخلوقات غير نفس المخلوقات، ولو كان عينها والخالقية صفة لله تعالى لزم اتصافه تعالى بالقاذورات، والشياطين. ولأنه يصح تعليل حدوث الحادث بخلق الله تعالى فلا يصح تعليل حدوثه بنفس ذلك الحادث، ولأنه يصح أن يقال: خلق السواد وخلق البياض ومفهوم الخلق فيهما واحد، ومفهوم السواد غير مفهوم البياض، ولاتفاق المعتبرين من النحاة على أن العالم في قول خلق الله العالم مفعول به لا مفعول مطلق. ثم لا نزاع في الاستدلال على الخالق بالمخلوق، لكن لا من جهة عينه بل من جهة خلق الله إياه، وهذه الجهة التي صيرته آية.
وقد عدد الله تعالى في هذه الآية ثماني آيات:
الأولى: خلق السموات وقد تكلمنا في عددها وترتيبها في تفسير قوله تعالى: {فسوّاهن سبع سموات} [البقرة: 29] وقد زعم أهل الهيئة لما شاهدوا من كل واحد من السيارات السبع حركات مختلفة كالبطء والسرعة بعد التوسط في الحركة والوقوف والرجوع بعد الاستقامة وهي الحركة على توالي البروج وعندهم مقدمتان كليتان إحداهما أن السمويات لا يتطرق إليها إلا الاختلاف الوضعي.
الثانية: أن حركة الكوكب في الفلك ليست كحركة السمك في الماء ولكه يدور بإدارة الفلك إياه، أن كل واحد من أفلاك السيارات ينقسم إلى أفلاك أخر يتضمنها فلكه الكلي الذي مركزه مركز العالم، ومراكزها تخالف مركزه في الأغلب. ثم إن كان مع المخالفة في المركز محيطًا بالأرض يخص باسم الخارج المركز ويبقى بعد توهم انفصاله من الفلك الكلي جسمان تعليميان متبادلًا وضع الغلظ والرقة يسميان المتممين، وإن لم يكن محيطًا بالأرض سمي بالتدوير، ويكون الكوكب مركوزًا فيه كالفص في الخاتم. ويلزم له من مجموع الحركات المركبة من تلك الأفلاك حركة مختلفة في النظر، وإن كان كل منهما متشابهًا في نفس الأمر، ويعني بالتشابه هاهنا أن يقطع المتحرك من المحيط في أزمنة متساوية قسيًا متساوية، أو يحدث عند المركز زوايا متساوية وبالاختلاف نقيض ذلك.
فللقمر من تلك الأفلاك أربعة: اثنان متوافقان في المركز وخارج وتدوير. وللعطارد أربعة: أحدها يوافق مركزه مركز العالم وخارجان وتدوير. وللزهرة ثلاثة: وللشمس اثنان: موافق وخارج. ولكل من الثلاثة العلوية كما للزهرة. ومقادير حركات هذه الأفلاك بسيطة موضوعة في الزيجات، وأما المختلفة فالشمس تقطع جميع الفلك في سنة شمسية وهي ثلثمائة وخمسة وستون يومًا وربع يوم إلا كسرًا، والقمر في ثمانية وعشرين يومًا، وكل من عطارد والزهرة كالشمس وزحل في ثلاثين سنة، والمريخ في سنتين، والمشتري في اثنتي عشرة سنة جميع ذلك بالتقريب. وإذا تقرر ذلك على الإجمال فنقول في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال: إن اختصاص مقادير كل واحد من الأفلاك بمقدار معين مع اشتراكها في الطبيعة الفلكية، تدل على مخصص مدبر مختار خبير قهار. وكذا تخصص كل منها بحيز معين، وكذا تعيين نقطتين من سطح الفلك للقطبية مع تساوي جميع النقط المفروضة عليه في صلوح ذلك، وكذا حصول الكواكب أو التدوير في جانب معين من الفلك، وكذا تفصيل الأفلاك الكلية إلى الخوارج المراكز وإبقاء المتممات على أقدار معينة في الرقة والغلظ، وكذا تعيين كل من الأجرام بحركة معينة. السيارات كما قلنا آنفًا والثوابت بحيث تتم دورًا في ستة وثلاثين ألف سنة على ما في المجسطي، أو في خمسة وعشرين ألف سنة ومائتي سنة عند المتأخرين، والفلك الأعظم في يوم بليلة. وكذا تعيين جهات الحركات شرقًا أو غربًا أو شمالًا أو جنوبًا، وكذا تعيين مبادئ الحركات وتخصيصها بزمان دون زمان، فإن الأفلاك سواء قلنا أن ذواتها حادثة أو يقال إنها أزلية، لابد أن يكون لحركاتها أول فإن الحركة انتقال من حالة إلى حالة، وكون الحركة أزلية ينافي المسبوقية بالغير. فالابتداء بالحركة بعد أن لم تكن يقتضي الافتقار إلى فاعل مختار يكون الكل تحت قهره وتسخيره، وكذا تخصيص كل من الكواكب بعظم آخر وبلون آخر وبلون آخر كصفرة عطارد وبياض الزهرة كمودة زحل ودريّة المشتري وحمرة المريخ وظلمة القمر في ذاته بحيث إذا حال حائل بين الناظر وبين الشمس- وذلك في الاجتماع المرئي- كسفه. وكذا اختلاف تأثيراتها في هذا العالم بإذن خالقها. وبالجملة فإن هذا الترتيب العجيب والنسق الأنيق في تركيب هذه الأفلاك وائتلاف حركتها وارتباط أجرامها واختلاف أوضاعها المستتبعة لاتصالاتها وانصرافاتها، أترى أنها مبنية على حكمة وبقدرة قدير خبير أم هي واقعة عبثًا وجزافًا؟ هيهات فإن من جوّز في بناء رفيع وقصر مشيد أن التراب والماء انضم أحدهما إلى الآخر ثم تولد منهما اللبنات ثم تركبت تلك اللبنات وتولدت من تركيبها القصر ثم تزين بنفسه بالنقوش الغريبة والرسوم اللطيفة، قضى العقل له بالجنون وسجل عليه بسخافة الرأي بل يعد من زمرة الأنعام من جملة الأنام.
الآية الثانية خلق الأرض: ومن تأمل في شكلها من الاستدارة وفي حيزها من كونها واقعة في مركز العالم حتى انبعث منها بوقوع الشمس عليها مخروط ظلي في مقابلة الشمس متى وقع القمر فيه انخسف، ومن انكشاف بعضها عن كرة الماء لمكان الاستقرار عليها، وفي اختلاف أوضاع بقاعها بالنسبة إلى السماء حتى اختلف مرور الشمس وسائر الكواكب بسمت رءوس قطان البلدان وتباينت الفصول والأمزجة والأخلاق وتغايرت الطوالع والمطالع بحسب تغاير الآفاق، ومن سائر أعراضها ومنافعها التي تقرر طرف منها في تفسير قوله: {الذي جعل لكم الأرض فراشًا} [البقرة: 22] علم افتقارها إلى مدبر قدير وعليم خبير واحد في ملكه يفعل ما يشاء كما يشاء من غير منازع ومعاند.
الثالثة: اختلاف الليل والنهار: أما النهار فإنه عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأفق. وفي عرف الشرع: زيادة ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع جرم الشمس. وأما الليل، فعبارة عن مدة خفاء الشمس تحت الأفق، أو بنقصان الزيادة المذكورة، وذلك لأن الشمس إذا غابت ارتفع رأس مخروط ظل الأرض إلى فوق فوقع الإبصار داخله إلى أن يظهر الضلع المستنير منه من جانب الأفق الشرقي فيكون أول الفجر الكاذب إن كان الضوء مرتفعًا عن الأفق بعد، وأول الفجر الصادق إذا قرب من الأفق جدًا وانبسط النور حتى إذا غاب رأس المخروط تحت الأفق طلع مركز جرم الشمس في مقابله فظهر أن الليل والنهار كيف يختلفان أي يتعاقبان مجيئًا وذهابًا كقوله: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} [الفرقان: 62] أو يختلفان ظلامًا وضياءً أو طولًا وقصرًا لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر ضرورة كون مجموعهما أربعًا وعشرين ساعة. أو كيف يختلفان في الأمكنة فإن نهار كل بقعة تقابلها ضرورة كروية الأرض. أو كيف يختلفان باختلاف البلدان فإن البلد كلما ازداد عرضًا عن خط الاستواء- وهو الموضع المحاذي لمنطقة الفلك الأعظم المسماة معدل النهار- ازداد نهاره في الصيف طولًا وفي الشتاء قصرًا وبالعكس في الليل وقد يرتقي طول النهار بحسب تزايد ارتفاع القطب إلى حيث يصير اليوم بليلته نهارًا كله وبإزائه الليل، ثم إلى أكثر من ذلك إلى حيث يكون نصف السنة نهارًا ونصفها الآخر ليلًا وذلك إذا صار قطب الفلك الأعظم محاذيًا لسمت الرأس ولا عمارة هناك، ولا حيث يزيد النهار الأطول على يوم بليلته لشدة البرد اللازم من قبل انخفاض الشمس. وكون الليل والنهار في أنفسهما آيتين على وجود الصانع ووحدانيته ظاهر، وكذا من جهة ارتباطهما بحركة النير الأعظم، وكذا من جهة انتظام أحوال العباد بهما بسبب طلب المعاش في الأيام والنوم والراحة في الليالي.
ومن الغرائب تعاون المتنافيين على أمر واحد هو إصلاح معاش الحيوان، وأن إقبال الخلق في أول الليل على النوم يشبه موت الخلائق أولًا عند النفخة الأولى، ويقظتهم عند طلوع الفجر تضاهي عود الحياة إليهم في النفخة الثانية، وانشقاق ظلمة الليل بظهور الفجر المستطيل فيه من أعجب الأشياء كأنه جدول ماء صاف يسيل فيما بين بحر كدر بحيث لا يمتزجان. وكل هذه الأمور دلائل على وجود مبدع عظيم الشأن غني عن الزمان والمكان مبرأ عن سمات الحدوث والإمكان.
الرابعة: الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس أي متلبسة بالذي ينفعهم مما يحمل فيها، أو بنفع الناس. والفلك بالضم والسكون السفينة، واحد وجمع. فضمة الواحد ضمة برد وضمة الجمع ضمة أسد، وتأنيث صفته هاهنا أن يكون لتضمين معنى السفينة، ويحتمل أن يكون لمعنى الجمعية أي المراكب التي تجري، والتركيب يدل على الاستدارة والدوران ومنه الفلك جسم كروي يحيط به سطحان متوازيان مركزهما واحد وفلكة المغزل وفلك ثدي الجارية استدار.
والبحر خلاف البر.
قيل: سمي بذلك لاتساعه وتعمقه ومنه تبحر في العلم والمال ويسمى الفرس الواسع الجري بحرًا. قال صلى الله عليه وسلم في فرس أبي طلحة: «إن وجدناه لبحرًا» وقيل: من الشق بحرت أذن الناقة شققتها. ومنه البحيرة. هذا وقد سلف في تفسير قوله عز من قائل: {الذي جعل لكم الأرض فراشًا} [البقرة: 22]. أن الماء محيط بأكثر جوانب القدر المعمور من الأرض فذلك هو البحر المحيط. وقد دخل من ذلك الماء من جانب الجنوب متصلًا بالمحيط الشرقي ومنقطعًا عن الغربي إلى وسط العمارة أربعة خلجان: أولها إذا ابتدئ من الغرب الخليج البربري لكونه حدود بربر من أرض الحبشة طوله من الجنوب إلى الشمال مائة وستون فرسخًا، وعرضه خمسة وثلاثون فرسخًا. وعلى ضلعه الغربي بلاد كفار الحبشة وبعض الزنج، وعلى الشرقي بلاد مسلمي الحبشة. وثانيها الخليج الأحمر، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعمائة وستون فرسخًا، وعرضه بقرب منتهاه ستون فرسخًا، وبين طرفه وفسطاط مصر الذي على شرقي النيل مسيرة ثلاثة أيام على البر، وعلى ضلعه الغربي بلاد الزنج من البربر وبعض بلاد الحبشة، وعلى ضلعه الشرقي سواحل عليها فرضة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لقوافل مصر والحبشة إلى الحجاز، ثم سواحل اليمن، ثم عدن على الزاوية الشرقية منه. وثالثها خليج فارس، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعمائة وستون فرسخًا، وعرضه قريب مائة وثمانين، وعلى سواحل ضلعه الغربي اليمن وبلاد عمان ولهذا ينسب البحر هناك إليها.
وجملة ولاية العرب وأحيائهم من الحجاز واليمن والطائف وغيرها وبواديهم بين الضلع الغربي من هذا البحر والشرقي من الخليج الأحمر، فلهذا تسمى العمارة الواقعة بينهما جزيرة العرب وفيها مكة زاد الله شرفها.
وعلى سواحل ضلعه الشرقي بلاد فارس ثم هرموز ثم مكران ثم سواحل السند. ورابعها الخليج الأخضر مثلث الشكل آخذ من الجنوب إلى الشمال. ضلعه الشرقي من بلاد فارس ثم هرموز ثم مكران يتصل بالمحيط الشرقي. وضلعه الغربي خمسمائة فرسخ تقريبًا. وعلى سواحل هذا الضلع ولايات القتا والصين ولهذا يسمى بحر الصين، ومن زاويته الشرقية من بحر فارس يسمى بحر الهند لكون بعض ولاياتهم على سواحله، وأيضًا قد دخل إلى العمارة من جانب الغرب خليج عظيم يمر من جانب الجنوب على كثير من بلاد المغرب ويحاذي أرض السودان وينتهي إلى بلاد مصر والشام، ومن جانب الشمال على بلاد أندلس والجلانقة والصقالبة إلى بلاد الروم والشام، ويتشعب منه شعبة من شمال أرض الصقالبة إلى أرض مسلمي بلغار يسمى بحر ورتك. طوله المعلوم مائة فرسخ، وعرضه ثلاثة وثلاثون. وإذا جاوز تلك النواحي امتدّ نحو المشرق عما وراء جبال غير مسلوكة وأراض غير مسكونة، ويتشعب منه أيضًا شعبة تسمى بحر طرابزون. فهذه هي البحار المتصلة بالمحيط. أما غير المتصلة فأعظمها بحر طبرستان وجيلان وباب الأبواب والخرز والبكون، لكون هذه الولايات على سواحله مستطيل الشكل آخذ من المشرق إلى المغرب بأكثر من مائتين وخمسين فرسخًا، ومن الجنوب إلى الشمال تقريب من مائتين. ومن عجائب البحار الحيوانات المختلفة الأعظام والأنواع والأصناف، ومنها الجزائر الواقعة فيها. فقد يقال في بحر الهند من الجزائر العامرة وغير العامرة ألف وثلثمائة وسبعون، منها جزيرة عظيمة في أقصى البحر تقابل أرض الهند في ناحية المشرق. وعند بلاد الصين تسمى جزيرة سرنديب دورها ثلاثة آلاف ميل، فيها جبال عظيمة وأنهار كثيرة ومنها يخرج الياقوت الأحمر. وحول هذه الجزيرة تسع عشرة جزيرة عامرة فيها مدائن وقرى كثيرة، ومن جزائر هذا البحر جزيرة كلة التي يجلب منها الرصاص القلعي، وجزيرة سريرة التي يجلب منها الكافور. وغرائب البحر كثيرة ولهذا قيل: حدث عن البحر ولا حرج وسئل بعض العقلاء ما رأيت من عجائب البحر؟ قال: سلامتي منه. والسفينة مما ألهم الله تعالى تركيبها ثم أجراها بقدرته على وجه الماء، فلولا رقة الماء وخفة مادة السفينة ثم عجيب صنعتها لما تم جريها، ولولا الرياح المعينة على تحركها لما تكامل النفع بها، ولولا اعتدال الريح لما سلمت من تلاطم الأمواج، ولولا تقوية قلوب راكبيها لما صبروا على شدائد ركوبها، ولولا أنه تعالى خص كل طرف بشيء لم تنبعث الدواعي إلى اقتحام الأخطار في هذه الأسفار وحمل الأمتعة إلى الأمصار في البراري والبحار، فلا جرم ينتفع الحامل من حيث إنه يربح، وينتفع المحمول إليه من حيث إنه يجد ما أعوزه.
وفي الآية دليل على إباحة ركوب السفينة وإباحة الانتفاع بالتجارة.
الخامسة: {وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها} أما نزول المطر من السماء فقد مر تحقيق ذلك في تفسير قوله تعالى: {أو كصيبٍ من السماء} [البقرة: 19] وأن المراد من السماء السحاب أو التقدير من جانب السماء. وأما تنكير {من ماء} فلأن الغرض الوحدة الشخصية أو الصنفية يعني ماء هو سبب حياة الأرض لا المطر الذي قد لا ينبت شيئًا كما جاء في الحديث: «ليس السنة بالتي لا تمطر وإنما السنة التي تمطر ولا تنبت» ولا ريب أن في إنزال ذلك الماء دلالات على الصانع ووحدانيته حيث جعله في غاية الصفاء واللطافة والعذوبة وصيره سببًا للأرزاق وأنزله بعد قنوط الناس منه وشدة احتياجهم إليه وأودع في نزوله حياة الأرض أي حسنها ونضارتها ورواءها وبهجتها وخضرتها بخروج أصناف النبات وضروب الأعشاب وألوان الأزهار وأنواع الأشجار والأثمار وجريان الجداول بينها والأنهار بحيث تروق الناظرين وتشوق السامعين.
فوقت الربيع في الأزمان ** كسن الصبا في الأسنان

وموت الأرض من ترشيح الاستعارة، فإنه لما عبر عن بهجتها ونضرتها وخضرتها بالحياة، عبر عن جمودها وكمودتها وبقائها على الهيئة الأصلية بالموت كأنها جسد لا روح فيه. فلا دواء عليه.
السادسة: {وبث فيها من كل دابةٍ} وإنه معطوف على {أنزل} فيدخل تحت حكم الصلة، ويصح عود الضمير {فيها} إلى الأرض لأن قوله: {فأحيا} عطف على {أنزل} فاتصل به وصارا جميعًا كالشيء الواحد. فكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة ويجوز عطفه على {أحيا} أي فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابةٍ، لأن معاش الحيوان بل حياته يدور على الماء {وجعلنا من الماء كل شيء حي} [الأنبياء: 30]. واعلم أن الحيوان إما توليدي أو توالدي، وكلا الصنفين يحتاج إلى صانع فردٍ حكيم. يحكى أن شخصًا قال بحضرة عمر: إني أتعجب من أمر الشطرنج ورقعته صغيرة ولو لعب الإنسان به ألف مرة لم يتفق مرتان فقال عمر: هاهنا ما هو أعجب منه، وهو أن مقدار الوجه شبر في شبر، ثم إن مواضع الأعضاء التي فيها من الحاجبين والعينين والأنف والفم لا يتغير ألبتة ومع ذلك لا ترى شخصين أبدًا يشتبهان في الصورة. فما أعظم تلك القدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرقعة الصغيرة هذه الاختلافات التي لا حد لها، ولولا هذا الاختلاف لاشتبه الناس بعضهم ببعض وانقطع نظم معايشهم وحوائجهم. ومن تأمل كتب التشريح وقرأ كتاب الحيوان وتتبع عجائب المخلوقات وقف من تراكيبها وخواصها على ما يقضي منه العجب ويفضي إلى الاعتراف بوحدانية الرب.
السابعة: تصريف الله تعالى الرياح مع دقتها ولطافتها وفي ذلك نفع عظيم لانتفاع الحيوان بتنشق الهواء البارد، وبجريان السفن بهبوب الرياح، ومن قبل تلقيح الأشجار وسوق السحاب إلى حيث يرسله الله تعالى، ومن جهة تصحيح الأهوية الوبائية إلى غير ذلك من المنافع.
والمراد بتصريفها تقليبها في جهات العالم على حسب المصالح شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا أي صبًا ودبورًا على كيفيات متخالفة حارّة وباردة وعاصفة ورخاء. ومن قرأ الريح بالموحدة فليس فيها دلالة على العذاب في هذا المقام، والذي جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح قال: «اللَّهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا».
فلا يدل إلا على أن مواضع الرحمة بالجمع أدل كما قال تعالى: {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات} [الروم: 46] وقال: {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} [الذاريات: 41] وقد تختص اللفظة في القرآن بشيء فتكون أمارة له. فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله: {وما يدريك} مبهم غير معين قال: {وما يدريك لعل الساعة قريب} [الشورى: 17] وما كان من لفظ أدراك فإنه مفسر {وما أدراك ما القارعة} [القارعة: 3] {وما أدراك ما هيه} [القارعة: 10].
الثامنة: السحاب المسخر بين السماء والأرض سمي سحابًا لانسحابه في الهواء. ومعنى التسخير التذليل. وذلك أن طبع الماء ثقيل يقتضي النزول فكان بقاؤه في جو الهواء على خلاف طبعه بقاسر ومخسر. وأيضًا لو دام لعظم ضرره من حيث إنه يستر ضوء الشمس ويكثر الأنداء والأمطار ويتعذر التردد في الحوائج، ولو انقطع لعظم ضرره لاستلزامه الجدب والإمحال، فكان تقديره بالمقدار المعلوم والإتيان به في وقت الحاجة ودفعه عند زوالها بمدبر ومسخر لا محالة. وفي نفس السحاب من عظمه وتراكمه وارتفاعه وانخفاضه وانبساطه وتخلخله وسده الأفق في لحظة وانقشاعه في أخرى واشتماله على الرعد والبرق والسحمة والتطبيق إلى غير ذلك من العجائب دلالات واضحة على كمال حكمة موجده ومقدّره. وأما قوله تعالى: {الآيات} فيحتمل أن يكون راجعًا إلى الكل أي مجموع هذه الأشياء الثمانية آيات، ويحتمل أن يكون راجعًا إلى كل واحد فإن كل واحد منها يدل على مدلولات كثيرة كما فصلنا. وأيضًا فكل واحدة منها من حيث إنها موجودة فدل على وجود موجدها، وكونه قادرًا ومن حيث إنها وقعت على وجه الإحكام والإتقان تدل على علم الصانع، ومن حيث حدوثها واختصاصها بوقتٍ دون وقت تدل على إرادته واختياره، ومن حيث إنها وجدت على الاتساق والانتظام دلت على وحدانية الله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22]. وأما قوله تعالى: {لقوم يعقلون} فإنما خص الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه والاستدلال به. وفي الآية من الفوائد أن التقليد مذموم فيما إلى تحقيقه سبيل. وفيها أن جميع المعارف ليست ضرورية وإلا لم يحتج إلى النظر في شيء منها، وإنما خص الآيات الثمانية بالذكر مع أن سائر الأجسام والأعراض مستوية في الاستدلال بها على وجود الصانع بل كل ذرّة من الذرات، لأنها جامعة بين كونها نعمًا على المكلفين، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثيرًا في الخواطر. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلٌ لمن قرأ هذه الآية فمج بها» أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها حسبي الله ونعم الوكيل. اهـ.